القراصنة في البحر الأبيض المتوسط ,القرصنة مهنة من اقدم المهن التي احترفها الانسان، وقد ازدهرت في البحر المتوسط بصفة خاصة مدى قرون عديدة. وربما بدأ عهدها ایام الفينيقيين منذ عدة الاف من السنين، وتلتها القرصنة النابعة من الشاطىء الافريقي والتي استمرت حتى عام۱۸۳۰، والواقع أن السفن التجارية المحملة بالنفائس، والمسلحة تسليحا خفيفا والمتباعدة عن أوطانها، قد هيأت دائما اعظم الغنائم للصوص والسلابين. ومتى آنس القراصنة قاعدة يمكنهم فيها التخلص من غنائمهم، وحظا مواتيا لتفادي الموت او الأسر، فقد كان لهم أن يطمئنوا ويعولوا على مورد للعيش مكفول الرخاء.
لقد ظل البحر المتوسط حينا من الدهر خلوا من القراصنة بصورة معقولة بفضل اسطول قرطاجنة Carthage القوي، ولكن القراصنة ما لبثوا بعد تدمير تلك المدينة على ايدي روما، آن اخذوا يتكاثرون وتتزايد أعدادهم – ولم تكن روما دولة بحرية قط، وكانت تتحاشى الحرب البحرية ما استطاعت الى ذلك سبيلا. على انه جاءت فترة من الزمن اصبح الموقف فيها لا يحتمل، فعهد إلى الجندي المحارب الكبير بومبي Pompey تخليص البحار من هذا الخطر الداهم، فاتم مهمته بنجاح تام في فترة قصيرة مذهلة أمدها ثلاثة اشهر. لكن احدا لم يساوره الظن بان هذه كانت نهاية القراصنة، وقد صحت الظنون فعلا، اذ لم يمض وقت طويل حتى بدأوا يعودون الى الظهور.
ولعل اشهر شخص قدر له أن يقع بين أيدي القراصنة، هو يوليوس قيصر. وعندما طلبوا منه فدية قدرها ۲۰ طالنتا (۱)، شعر باهانة بالغة وقال انه يساوي على الاقل ۵۰. فوافق القراصنة ضاحكين، وحسبوها نكتة كبيرة عندما قال انه سوف يقتنصهم ذات يوم ويقضي عليهم. وقد كان صادقا فيما توعد ، ففي غضون أسابيع قلائل من اطلاق سراحه، وقعت عصابة القراصنة كلها في الأسر وابیدت عن بكرة أبيها.
قراصنة البربر
ربما كان القرن السادس عشر هو العصر الذهبي للقرصنة. ففي عام ۱۶۹۲، اخرج المغاربة اخيرا وبعد صراع طويل من اسبانيا، حيث ظلوا يعيشون قرونا عديدة. وقد اضطروا إلى الالتجاء إلى شمالي افريقيا، ونظرا لانعدام سبل العيش امامهم، فقد انحاز هؤلاء القوم الأباة المولعون بالحرب الى جانب القرصنة، واتخذوا لهم قواعد في موانيء مثل طرابلس والجزائر، وكان الحكام فيهما على استعداد لايوائهم مقابل نصيب من غنائمهم، فأعدوا لأنفسهم اسطولا للقرصنة بالغ التنظيم، واصبحوا يعرفون فيما بعد بقراصنة البربر، وهو اسم احدى القبائل في ذلك الاقليم.
في ذلك العهد كانت الغنائم وفيرة في البحر المتوسط، واصبح اسطور القراصنة يزداد عددا وقوة مع كل نجاح يصيبونه ، وعندما كانت السفن تقع في الأسر، كان ملاحوها يخيرون بين الانضمام إلى القراصنة او الجلاء عن السفينة. أما السفينة ذاتها فكان زمامها يسلم إلى نوتية القراصنة، ثم يرفع علم يحمل رسم الجمجمة والعظمتين المتصالبتين فوق
ساريتها الرئيسية، وأحيانا كان يرفع هيكل عظمي بأكمله مدلي من السارية ولا مراء انه كان مشهدا يبعث الهلع في قلوب نوتية اية سفينة تجارية و تمخر البحر المتوسط في طمأنينة، أن يرون فجأة احدى سفن القراصنة تندفع نحوهم منذرة بالخطر، ولقد كان الإفلات عندئذ شيئا عسيرا، لان القراصنة كان تحت امرتهم عادة طاقم كبير من النوتية البارعين في التجذيف ولم تكد تنقضي دقائق معدودة، حتى تغدو السفينة التجارية، وهي تعج باشباح المهاجمين السمر ذوي الضراوة، تقع ضحية وغنيمة لأسطول القراصنة.
وكانت الأساطيل الحربية لبعض البلاد تنشط احيانا الى العمل ضد القراصنة، ولكن التجربة اثبتت انه كان من أشق الامور تطويقهم جميعا واقتناصهم، فقد كانت لهم مواطن كثيرة يلوذون بها ويلجأون اليها ، كما كانت لهم سرعة خاطفة في التحرك. وكان الكابتن وودز روجرز ، أحد جنود البحر القلائل الذين كتب لهم بعض النجاح ضد القراصنة، اذ افلح في حمل نحو ۲۰۰۰ قرصان على التسليم في جزر بهاما Bahamas عام ۱۷۱۸،.
ولقد استطاع كثير من زعماء القراصنة في ذلك العهد، أن يخلقوا لانفسهم اسما مدويا يلقي الرعب في القلوب. وكان من هؤلاء خير الدين بارباروسا ،الذي علا شأنه حتى اصبح امیرالا اعظم في الأسطول التركي. وكان منهم
كذلك دراجوت Dragut ، واوشياللي Occhiali وكان اسم كليهما يلقي الرعب في القلوب، وكثير من هؤلاء كانوا مسيحيين، اختاروا القرصنة مهنة لهم. والواقع أن كل من تهيأت له اسباب البسالة والبراعة البحرية، كان يجد فرص التقدم والارتقاء في اسطول القرصنة، سريعة قريبة المنال.
وكما كان هناك النوع العادي من القراصنة الذي يعمل مستقلا لحسابه فقد وجد كذلك نوع اخر من القراصنة كان يعمل باوامر من حكومة بعض البلاد. اذ كانت لهم سفن تعرف باسم (السفن المفوضية) ، كانت مخولة من الحكومة بمهاجمة سفن العدو والاستيلاء عليها، ولهذا كانت البلاد التي تستخدم ربابنة من هذا الطراز تزودهم بوثيقة خاصة تعرف باسم (
خطاب الاعتماد ) . وكانت هذه الوثيقة تخول لهم أن يعاملوا كأسرى حرب ان اوقعوا في الأسر، بدلا من اعدامهم كقراصنة. وقد اصبح مطمع كل قرصان ان يحمل على وثيقة من هذا النوع، ولم يأخذ القراصنة في الاختفاء الا بعد
تدهور الدولة العثمانية.
